الدبلوماسية السينمائية- قوة ناعمة لبناء صورة الدولة وتعزيز العلاقات الدولية.

المؤلف: د. سليمان صالح08.14.2025
الدبلوماسية السينمائية- قوة ناعمة لبناء صورة الدولة وتعزيز العلاقات الدولية.

تعتبر السينما وسيلة حيوية تستخدمها الدول لتقديم صورتها وتعزيز مكانتها في أذهان الجماهير، مما أدى إلى بروز مفهوم "الدبلوماسية السينمائية". هذا المفهوم اكتسب أهمية متزايدة في منظومة المفاهيم التي تهدف إلى تطوير الأنظمة الدبلوماسية، وتعزيز القوة الناعمة للدولة، وتحقيق أهداف سياستها الخارجية الطموحة.

يرتبط هذا المفهوم الوثيق بتقديم سرد مرئي للدولة للعالم، وقد ظهر هذا المفهوم خلال فترة الحرب الباردة، ولكنه شهد تجديدًا وزيادة في الاهتمام منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وذلك بسبب التغيرات المتسارعة في الظروف العالمية الراهنة.

التجربة الألمانية الرائدة

نجحت بعض الدول في تطوير تجارب رائدة في استخدام الدبلوماسية السينمائية، وتبرز التجربة الألمانية كنموذج ملهم، حيث عملت ألمانيا بجد على تقديم نفسها للجمهور في أستراليا وبناء صورة إيجابية ومشرقة لها، لذلك يحرص معهد جوته على تنظيم مهرجان سنوي للأفلام الألمانية في أستراليا.

ويؤكد معهد جوته أن هدفه الأساسي من هذه المبادرة هو تقديم الثقافة الألمانية العريقة بشكل مرئي وجذاب، وذلك من خلال استخدام الدبلوماسية السينمائية كوسيلة فعالة للتواصل الثقافي.

التأثير العميق على إدراك الجمهور

لا شك أن السينما تمتلك قدرة فائقة على التأثير في إدراك الجمهور للعالم من حوله، لذلك كان من الطبيعي أن تسعى الدول إلى استخدامها للتأثير على نظرة الجمهور للدولة، وتحقيق الجاذبية لثرائها الثقافي وتراثها الحضاري.

لقد أدركت الولايات المتحدة بحنكة أهمية السينما في تحقيق أهداف سياستها الخارجية الطموحة، لذلك تعاونت الحكومة الأمريكية بشكل وثيق مع شركات الإنتاج السينمائي في هوليود بهدف رسم صورة إيجابية ومشرقة لأمريكا في الخارج، وقامت الحكومة الأمريكية بتمويل سخي للعديد من الأفلام، ولم يكن الهدف الأساسي هو تحقيق الأرباح المادية، بل استخدام هذه الأفلام للتأثير الإيجابي على الرأي العام العالمي.

قوة هوليود الجبارة

أدركت أوروبا – وخاصة بريطانيا وفرنسا – بعمق خطورة غزوها بالأفلام الأمريكية، لذلك سعت جاهدة للدخول في منافسة شرسة مع هوليود.

كما تنبهت الدول الأوروبية للدور المحوري الذي تلعبه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) ووكالة الإعلام الأمريكية في دعم إنتاج الأفلام في هوليود، وقيامها بمراجعة دقيقة لهذه الأفلام، واستخدام المهرجانات السينمائية للتأثير العميق على الجمهور وتشكيل إدراكه للعالم.

ومع ذلك، لم تتمكن جميع الدول الأوروبية من الصمود في وجه قوة هوليود الجبارة التي شكلت قوة ناعمة مؤثرة لأمريكا، وساهمت بشكل كبير في إدارة أمريكا للصراعات العالمية، ولذلك لم تستطع أي دولة أن تصل إلى مرحلة المنافسة الحقيقية مع هوليود بإنتاجها الضخم والمتنوع الذي يلبي جميع الأذواق.

يشير أستاذ الدبلوماسية العامة المرموق نيكولاس كول إلى أن نجوم السينما الأمريكية يتمتعون بشهرة واسعة وإعجاب كبير في العديد من دول العالم، وبالتالي فإنهم يلعبون دورًا دبلوماسيًا حيويًا في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، وفي بناء قوتها الناعمة التي لا تقاوم.

تحديات جديدة تواجه العالم

يحمل القرن الحادي والعشرون تحديات جديدة للهوية القومية للدول، فالعالم يعيش في بيئة اتصالية جديدة ومتطورة، لذلك تزايد الاهتمام بمفهوم الدبلوماسية السينمائية، فلم تعد الأفلام تُعرض في دور العرض ليشاهدها جمهور محدود، بل الإنترنت وفرت فضاءً واسعًا لبث الأفلام التي تستهدف بناء صور ذهنية إيجابية للدول، وتزايد تعرض الجمهور للأفلام عبر الإنترنت، خاصة خلال فترة الجائحة العالمية.

العلاقات الثقافية الدولية المتنامية

يرى العديد من الباحثين أن الدبلوماسية السينمائية جزء لا يتجزأ من الدبلوماسية الثقافية، فالسينما تمثل وسيلة فعالة لبناء العلاقات الثقافية الدولية وتعزيزها، ونقل ثقافة الدولة إلى الدول الأخرى، وهذا يساهم في بناء علاقات طويلة الأمد مع الشعوب وتقوية أواصر الصداقة.

بينما بدأ بعض الباحثين في استخدام مفهوم الدبلوماسية السينمائية كوصف لمجال علمي جديد يهدف إلى استكشاف العوامل الثقافية والاجتماعية والجغرافية واللغوية في الأفلام السينمائية، والتي تستخدم للتأثير على إدراك الجمهور، وبناء علاقات قوية ومتينة مع الشعوب.

إننا نستخدم نظريات الاتصال عبر الثقافات في بناء مجال علمي جديد يهدف إلى دراسة الدور الحيوي الذي تلعبه السينما في بناء علاقات طويلة الأمد بين الشعوب، وفي تحقيق التفاهم المتبادل وتعزيز التعاون.

وفي هذا السياق، تزايد الاهتمام بالمهرجانات السينمائية كأداة للحوار الثقافي البناء بين الدول، كما تزايد الاهتمام بتجارب الإنتاج السينمائي المشترك التي تجمع بين ثقافات مختلفة.

الاستخدام السياسي الذكي للأفلام

لكن ذلك لا يعني فصل الدبلوماسية السينمائية بشكل كامل عن الدبلوماسية الثقافية، فالهدف الأسمى هو تطوير البحث العلمي في الاستخدام السياسي للأفلام في بناء علاقات دولية قوية، وإدخال الدبلوماسية السينمائية كمجال حيوي في النظام الدبلوماسي للدولة.

يضاف إلى ذلك أن الدبلوماسية السينمائية تشكل مقاربة مهمة لتطوير النقد السينمائي، واكتشاف الخطاب الأيديولوجي العميق والرموز الثقافية في الأفلام، ودور الأفلام في تشكيل الخيال الجمعي للشعوب، واستخدام السينما ببراعة كوسيلة لترجمة رموز الهوية الوطنية والقومية للدولة ونقلها بفاعلية للجمهور.

الهوية في التفاعل الإيجابي مع الآخرين

يكمن الدور الرئيسي للدبلوماسية السينمائية في بناء الهوية الثقافية العامة، وفي إطارها يتم إدراك هوية الدولة بوضوح، ولذلك يتزايد الاهتمام بالمهرجانات السينمائية كأداة لبناء هوية عالمية مشتركة، وإدارة الحوار البناء حول القواسم الإنسانية المشتركة، وإبراز تميز كل دولة في المساهمة الفعالة في الحضارة الإنسانية.

لذلك فإننا نستخدم نظريات الاتصال عبر الثقافات في بناء مجال علمي جديد يهدف إلى دراسة الدور الجوهري الذي تلعبه السينما في بناء علاقات طويلة الأمد بين الشعوب، وفي تحقيق التفاهم المشترك وتعزيز التعاون المثمر.

لكن ذلك لا يعني فصل الدبلوماسية السينمائية عن الدبلوماسية الثقافية والدبلوماسية العامة، لكنه يعني أن هذا المجال لا يزال بحاجة ماسة إلى نظريات جديدة تسهم في تطوير النقد السينمائي من المنظور السياسي بشكل عام، ومن منظور السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بشكل خاص.

قوة ناعمة ذكية ومؤثرة

تساهم الدبلوماسية السينمائية بشكل فعال في ما أطلقت عليه هيلاري كلينتون "القوة الناعمة الذكية"، لذلك بادرت وزارة الخارجية الأمريكية بالقيام بالعديد من الأنشطة لإنتاج أفلام تحقق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية الطموحة، وتوفير التمويل اللازم لأفلام روائية ووثائقية عالية الجودة.

وفي هذا السياق، عقدت وزارة الخارجية الأمريكية حلقة نقاشية قيمة ضمت 25 من خبراء السينما وصناع الأفلام المتميزين لاختيار 35 فيلمًا تقوم السفارات الأمريكية في جميع أنحاء العالم بعرضها على الجمهور في الدول الأجنبية الصديقة.

ولا تكتفي السفارات الأمريكية بعرض الأفلام فحسب، بل تحرص أيضًا على استضافة نجوم هذه الأفلام للقاء الجماهير، وإلقاء محاضرات شيقة حول موضوعات الأفلام، وتوفير الفرص لهؤلاء النجوم لإجراء حوارات مفتوحة مع وسائل الإعلام المحلية.

وتقوم وزارة الخارجية بتحديد دقيق للموضوعات التي يتم اختيار الأفلام التي تتناولها بعناية، مثل قضايا البيئة الملحة، وتمكين المرأة، والصحة النفسية للفتيات الصغيرات، وأهمية المجتمع المدني في بناء مستقبل أفضل.

ويشترط في الأفلام التي يتم اختيارها للعرض في الدول الأجنبية أن تتحدث بصراحة عن حرية التفكير والتعبير في الولايات المتحدة، وأن تعكس القيم الديمقراطية التي تقوم عليها.

ففي برنامج عام 2011، قامت وزارة الخارجية باختيار أفلام تصور الحياة الأمريكية بكل جوانبها، وتقدم التعديل الأول للدستور الأمريكي كأساس راسخ للحرية، واهتمام أمريكا المتزايد بذوي الاحتياجات الخاصة وتقديرهم.

يقول مارك هاريس (منتج أفلام وثائقية مرموق وحائز على جائزة الأوسكار المرموقة) إن الهدف الأسمى من اختيار الأفلام هو عرض القيم الديمقراطية الأمريكية على العالم أجمع، وإبراز التزام أمريكا بهذه القيم النبيلة.

عروض خاصة لطلاب المدارس والجامعات

تبدي السفارة الأمريكية في ليتوانيا اهتمامًا خاصًا باستخدام الدبلوماسية السينمائية بشكل مكثف، إذ تقوم بعرض الأفلام التي يتم اختيارها في برنامج وزارة الخارجية لطلاب المدارس والجامعات، كما تستضيف نجوم السينما المحبوبين لإلقاء محاضرات قيمة بعد عرض الأفلام وإثراء النقاش.

توضح هذه التجربة الرائدة أن السفارات الأمريكية تقوم باختيار الجمهور المستهدف بعناية فائقة، وتعمل بجد للتأثير فيه على مدى زمني طويل لجذبه للثقافة الأمريكية الغنية، وبناء صورة إيجابية للولايات المتحدة يتم على أساسها تطوير العلاقات وتعزيز التعاون مع الدول الصديقة.

التعاون المثمر في إنتاج الأفلام

من بين الأنشطة البارزة التي تقوم بها وزارة الخارجية الأمريكية، توفير الإمكانات والفرص لإنتاج الأفلام على نحو مشترك مع الدول الأخرى، ومن أهم هذه التجارب الناجحة ما قامت به السفارة الأمريكية في كندا، التي عملت بجد على جمع منتجي الأفلام الأمريكيين والكنديين الموهوبين للتعاون المثمر في إنتاج الأفلام التي تعالج موضوعات ذات اهتمام مشترك.

كما توفر السفارة الأمريكية في كندا الإمكانات اللازمة لتوزيع هذه الأفلام على نطاق واسع في أمريكا وكندا وفي العديد من الدول الأجنبية الأخرى، مما يساهم في تعزيز التبادل الثقافي والحوار بين الشعوب.

تفكير سينمائي جديد ومبتكر

إن مفهوم الدبلوماسية السينمائية يفتح آفاقًا واسعة لتفكير سينمائي جديد ومبتكر يساهم بفاعلية في تحديد الأهداف التي يمكن أن يحققها الفيلم في التأثير على الشعوب، وفي بناء الصورة الذهنية الإيجابية للدولة.

فإنتاج الأفلام لا يتم فقط بغرض التسلية أو تحقيق الأهداف التجارية البحتة، بل هو وسيلة لتقديم صورة مرئية حية للدولة، وعرض سردية متميزة لأحد جوانب ثقافتها وقيمها وتاريخها العريق.

لذلك، هناك حاجة ملحة لتأهيل كوادر متخصصة قادرة على الإسهام بفاعلية في تطوير صناعة السينما، وإنتاج أفلام تحقق أهداف السياسة الخارجية للدولة، وبناء علاقات قوية وطويلة الأمد مع الشعوب الصديقة.

وهذه الكوادر تحتاج إلى دراسة متعمقة في العلوم السياسية وعلوم الاتصال والإعلام والصورة الذهنية والاتصال الثقافي، فالعديد من الدول أنفقت مبالغ طائلة على إنتاج أفلام شوهت صورتها بدلًا من تجميلها، وقللت من دورها العالمي، لأن هذه الأفلام أنتجها أشخاص متغربون لا ينتمون لثقافة الدولة، وفي كثير من الأحيان يمجدون النظام القائم ويشوهون صورة الدولة وشعبها وثقافتها وتاريخها وجغرافيتها الغنية.

لذلك، تفتح الدبلوماسية السينمائية المجال لتفكير سينمائي جديد يقوم على التخطيط الإستراتيجي لتقديم الدولة عالميًا بشكل مرئي جذاب، ورواية قصتها الملهمة للبشرية جمعاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة